رصــاصـة ....طــائــشـــة
رصــاصـة ....طــائــشـــة .....
كصباح كل يوم ينتفض السيد "كامل" من مضجعه بخفة, و يملأ البيت ضحكات و تمتمات مع زوجته و أولاده بين أغانٍ و خواطر تخالج نفسه المتقلبة, و أخيرا يختم عبثه بلعنة مفاتيح سيارته الضائعة كل صباح بفعل صبيه الذي يطاردها أينما حلت, اليوم لم يطل البحث كثيرا فقد وجدها أمام الصغير النائم.
و بينما يدير محرك سيارته يتلقف أمواج الإذاعة الأولى و كم تتعالى صرخاته الهستيرية معلقاً كل خبرٍ يذاع, ينطلق يسابق دقات ساعته في طريق أمضى نصف عمره يخطها ذهابا و إيابا, تارة يسلم على هذا و تارة يخاطب ذاك بنتيجة مباراة أو خيبة فريق, و في حقيقة الأمر ألف كامل الأمر واعتاد عليه.
الطريق نفسها, الوجوه نفسها, الأمر أشبه بأفعوانية قدر مسارها لا يتغير, أماكن الزحمة نفسها, الأصوات نفسها ..مهلا ... أمر على غير العادة اليوم, على حافة الطريق العتيقة, امرأة مهذبة القوام مسترسلة الخصلات, تتأبط بيسارها حقيبة و تومئ بيمناها في حركات حملت مزيج الرجاء و التوسل, خفف من سرعته فانحنت متحججة بالتأخر و قلة سيارات الأجرة في صيبٍ وافِرٍ من الكلمات.
توقف كامل دون تفكير بالأمر فركبت السيدة مباشرة و هي تعتذر على الإزعاج, و بخلده عسعس طيف زوجته الناقم لو رأته, و أخير صرع مخاوفه متحججا بأنها سيدة محترمة لما بدا له من هيئتها كما أن غرضه أن يقلها لا أكثر, و تبدد هذا السجال بصوت السيدة متشكرة مادةً يدها راسمة استفسار بملامحها على عدم مصافحتها, فانفعل كامل و تدارك الأمر بقوله ..العفو .. العفو و صافحها
فتكلمت و هي توضب شعرها على مرآة السيارة: لا عليك .. شكرا أنا " أمل" و الواضح أن طريقنا واحد.
فرد: مرحبا أنا كامل ... حضرتك غريبة عن المنطقة
- نعم قضيت الليل مع صديقة لي و لدي موعد باكر.. ردت عليه و هي تخرج سيجارتها من حقيبتها, ثم أشعلتها و فتحت زجاج السيارة قليلا و مضت مسندة رأسها على باب السيارة تنفث دخان سيجارتها, ثم عم الصمت.
في غمرة الضباب الخفيف و الجليد على حواف الطريق, واصل كامل مسيره على مهل حتى تراءت له أضواء سيارات متوقفة فخفف من سرعته حتى توقف, و مد رأسه إلى الأمام مركزا بعينيه, فبدى له أطياف أشخاص على الطريق, و بعد لحظة عرف أنهم من الشرطة يحاولون سحب سيارة انحرفت, و بقي الأمر كما هو عليه و عاد طيف زوجته يدق رأسه من جديد, ماذا لو مر أحد معارفها و أخبرها, هل سيفتح هذا الأمر باب الشك السليط, و قطع شروده صوت منبه سيارته الذي أطلقته السيدة,رمق كامل احد رجال الشرطة و هو يحدق إليه متمايلا إلى الخلف, و واصلت السيدة الضغط على المنبه مرة و مرتين و كامل ساكن لا يتحرك, حتى انزعج الشرطي و انطلق صوبهما.
تقدم الشرطي مستفسرا ففتح كامل زجاج السيارة و نظر إلى الشرطي ثم إلى السيدة محاولا إخبار الشرطي أنه ليس الفاعل, طأطأ الشرطي رأسه ناظرا إليها, فنظرت إليه ثم أدارت رأسها و هي تهز ساقيها, فاستدار الشرطي حول السيارة, وقف عندها و قرع بخفة على الزجاج, فتجاهلته فكرر الأمر و هنا تدخل كامل و فتح الزجاج بنفسه.
تأمل الشرطي قليلا ثم طلب أوراقها الشخصية, لم تعر السيدة اهتماما و بدا ذلك جليا من خلال مراقبة شفتيها على مرآة السيارة بعد أن أخرجت أحمر الشفاه من حقيبتها, عندها فتح الشرطي الباب و طلب منها الترجل عن السيارة, فترجلت و هي تتذمر فلفت انتباه الشرطي رائحة السجائر المحشوة المنبعثة من السيارة, فأشار لرفاقه بالقدوم و تمتم قائلا تسرفون في تعاطي الممنوعات فتسيئون الاحترام, و طلب من كامل الترجل سائلا عن هويته و هوية مرافقته و عن سبب رائحة السجائر, فأجاب كامل أنه لا يعرفها و أنه لا يدخن أصلا و أنه أقلها من على قارعة الطريق.
عندها علقت السيدة بهدوء: كفى كامل تعرفني و تسكعنا معاً كثيرًا, كما أن السيجارة ليست لي.
في واقع الأمر كانت فترة لا مبالاة السيدة و تظاهرها بتزيين نفسها كفيلةَ بسحقها السيجارة في مطفأة السجائر و إخفاء الأمر دون لفت الانتباه, و فورا استخرج الشرطي بقايا السيجارة من المطفأة و وجد أمامها قطعة مخدر فأمر السيدة أن تتبعه كما أمر كامل بأن يتبعه لقسم الشرطة بسيارته بعد أن أخذ أوراقه الشخصية.
و في قسم الشرطة تجرع كامل مرارة الحلق شاردا بين أسئلة المحقق و ضجيج المكان و إجراء التحاليل و صوت السيدة يصدح إصرارا أن المخدرات ملكه و أنها تعرفه و أنها كانت معه مساء أمس, و رغم تيقنه بأن الأمر لا يعنيه إلا أنه لم يتوقف لحظة في التفكير في زوجته و سمعته, الأوهام تغزوه من كل صوب, ريما مجرد استنشاقه لدخان تلك السيجارة الملعونة يأتي بنتيجة تحاليل ايجابية و يتورط, المخاوف تربكه بجلبات سياطها .
وسط هاته الضوضاء تصل زوجته, يستعطفها بنظراته المحطمة, يريد قول الكثير لها, يسترسل المحقق في طرح بعض الأسئلة على زوجته عن سيرته فترد دون تردد أنهما يعيشان حياة عادية و أنه ليس مدمن على أي نوع من السجائر أو الكحول, و ضلت طوال الوقت ترد على المحقق و بصرها المبهم يشد الرحال رواحا و مجيئا بين المحقق و زوجها, حتى سألها المحقق عن ليلة أمس فأجابت أنه تأخر بعض الشيء في العمل, و هنا سار المحقق ببصره صوب كامل مستفسرا.
صمت كامل مطأطأً رأسه, تلعثم في الكلام, ارتعد و رفع بصره صوب زوجته فوجدها ترمقه بعينين جاحظتين تومئان بأن يخبرهم أنه تأخر في العمل.
رد كامل متثاقلا: في الحقيقة .. في الحقيقة ... و زاد من حدة تلعثمه وجه زوجته الذي تلبدته حيرة غليظة, بصعوبة و بلهجة متقطعة واصل: تناولت وجبة العشاء مع زميلة لي.
اختلطت الأمور على كامل و هو متشبثٌ بنظرات زوجته المنهزمة و مظهر السيدة الذي خدعه و أمر زميلته, و كمضطر لا بطل ضل سبيل الخلاص و اعترف, فالكذب ربما يعقد الأمور أكثر, و فورا استفسر المحقق عن زميلته و أمر بإحضارها, و ساد الصمت, و زاد منظر زوجته المسعرة لخدها متحاشية النظر إليه من هواجسه المتكالبة.
و صلت زميلته, و كم انفعلت لما رأت زوجته جالسة, سألها المحقق عن أمسية أمس, فتسمرت و هي تحوم ببصرها بين الحضور حائرةً, حاولت الاستفسار لكن المحقق طلب منها الإجابة على السؤال, و جاء الرد الذي زاد الأمر سوءا.
كنا في بيتي, من أجل عشاءٍ.. كامل زميل مقرب لا أكثر دعوته للعشاء.....
وقفت الزوجة المغلوبة على أمرها و طلبت الانصراف, فتفهم المحقق الأمر فأذن لها فانصرفت و تابع تحقيقه مع زميلة كامل, و مرت ساعات طويلات على كامل يفكر بما آل إليه مآله, فهو على الرغم من حرصه على إخفاء علاقته مع زميلته باغته القدر من حيث لا يصنع حرصا ..... كيف يعتذر لزوجته, هل تنطلي عليها سيمفونية الزمالة الحمقاء, كل الأعذار من حوله اعتذرت, طيف زوجته يستعبده كرقيق لا حول له.
يدخل الشرطي الأول يحمل نتيجة التحاليل و نتيجة التحري حول كامل و تلك السيدة, يتصفحه المحقق, يقف و يمد يده لمصافحة كامل قائلا:
نعتذر عن الإزعاج, التحاليل تشير إلى تورط السيدة كما أن سوابقها كثيرة, و هي غريبة عن المنطقة, ربما قضت الليلة عند زبون أو ما شابه, لكن هذا لا يمنع توخي الحذر مستقبلا, و اعتذر منك على الموقف مع زميلتك و زوجتك.
لو كان هذا الكلام بادئ الأمر لكان مسرةً على قلب كامل, لكنه الآن لا يعني له شيئا, ليت زوجته تكلمت أو حتى صرخت في وجهه, صمتها كان القشة التي قسمت فؤاده, لا يدري أين ذهبت و ما صنعت, كيف صار في نظرها ........
نهض كامل بوجه عابس بارد و غادر كدمية تحركها خيوط تصنع عرض ترمقها عشرات النظرات و هي لا ترى من حولها شيئا, دخل بيته فوجده ليس أحسن حالا منه, عبسٌ و كآبة و سكون, الكل رحل, حمل ورقة مطوية على الطاولة و جلس على الأريكة, فتحها ببطئ وهو يومئ برأسه تحسرا, قرأها فوجد فيها كلمة واحدة ..... لـــــــماذا ؟
|
|