تأملات في سورة الحجر - منتديات أحاسيس الليل

 ننتظر تسجيلك هـنـا

{ إعلانات احاسيس الليل ) ~
 
   

فـعـآلـيـآت آلـمـنـتـدى


الإهداءات



 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 07-Dec-2021, 03:52 AM
نزف القلم غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 52
 تاريخ التسجيل : Jun 2021
 فترة الأقامة : 1256 يوم
 أخر زيارة : 10-Oct-2024 (01:27 PM)
 المشاركات : 1,312 [ + ]
 التقييم : 7187
 معدل التقييم : نزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond reputeنزف القلم has a reputation beyond repute
بيانات اضافيه [ + ]
تأملات في سورة الحجر



1 - ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 1].
تفتتح هذه السورة المباركة بالحروف المقطعة ﴿ الر ﴾، التي ذكر المفسرون أن الله تعالى أعلم بالمراد منها، والتي قال ابن عباس رضي الله عنه عن ﴿ الر ﴾هذه: إنها تعني: أنا الله أرى، كما ذكره الطبري والقرطبي في تفسيريهما.
وتأتي الحروف المقطعة في بعض السور آية مستقلة؛ كما في سور البقرة وآل عمران ومريم وغيرها، أو تأتي جزءًا من آية؛ كما في هذه السورة وفي سورة يونس وغيرهما، ويبدو أن لهذا الاختلاف انعكاسًا على المراد منها في كلٍّ من الحالتين، والله أعلم.
ولأن المراد بهذه الحروف غير معروف على وجه اليقين؛ فقد سكت المفسرون عن دلالتها في سياق الآيات، وبدؤوا تفسير هذه السورة باسم الإشارة ﴿ تِلْكَ ﴾ الوارد بعد الحروف المقطعة على أنهيشير إلى العلامات التي ذكرتها السورة في الآيات اللاحقة؛ كرمي الشياطين بالشهب، وما في الأرض من مخلوقات، والرياح، وغيرها، ولم يشر أيٌّ منهم إلى أن اسم الإشارة يشير إلى﴿ الر ﴾ التي سبقته.
وقد ورد في كتب إعراب القرآن أن ﴿ الر ﴾ حروف مقطعة لا محل لها من الإعراب، وأن ﴿ تِلْكَ ﴾ في محل رفع مبتدأ، وبحسب هذا الإعراب ومتابعة المفسرين له، فإن ﴿ الر ﴾ تبدو وكأنها لا دور لها في البناء وفهم السياق.
وقد يبدو - والله أعلم - أن ﴿ الر ﴾ مبتدأ، وأن جملة ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾خبر له؛ ولأن المقصود بالحروف المقطعة غير معلوم بشكل قاطع، فهي تمثل جانبًا من الغيب الذي ينبني عليه الإيمان، وهذا يعني أن فهم الآية الكريمة يكون هكذا: ﴿ الر ﴾؛ أي: ما تشتمل عليه هذه الحروف من إشارات إلى الغيب الذي استأثر الله تعالى به هي ﴿ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾، ولكن الكافرين والجاحدين رفضوا الإيمان بالإشارات الغيبية كلها، ومنها الحروف المقطعة، فذكر القرآن الكريم لهم بعد تلك الحروف آيات مادية يعرفونها؛ لتكون دليلاً لهم للإقرار بالغيب الذي يُخبر عنه.
وذكر المفسرون أن الكتاب هو القرآن الكريم، ونقل بعضهم عن العلماء أن المراد بالكتاب هو الكتب السماوية السابقة؛ كالتوراة والإنجيل؛ (تفسير الطبري 17: 59، تفسير البغوي 4: 363).
ويمكن - وعلى الرأيين - تعليل عطف القرآن على الكتاب على النحو الآتي:
بالنظر إلى اعتبار القرآن هو الكتاب، فإن التعليل قد يكون باعتبار الكتاب إشارة إلى الصورة المكتوبة لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن إشارة إلى الصورة المقروءة له، وقد ورد القرآن في كتاب الله مصدرًا للقراءة في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18].
وأما بالنظر إلى اعتبار الكتاب مشيرًا إلى الكتب السماوية، فقد ورد اللفظ مفردًا لأن دين الله تعالى واحد، ورسالة الأنبياء واحدة، فجاء اللفظ موافقًا لذلك، والقرآن معطوف على الكتاب؛ للعناية به، من باب عطف الخاص على العام، وله أمثلة في القرآن الكريم وكلام العرب؛ كقوله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، فعطف الروح الذي هو جبريل عليه السلام على الملائكة، وجبريل من الملائكة، وغيرها، كما يمكن اعتبار ﴿ قُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ معطوفًا مستقلاًّ على﴿ الْكِتَابِ ﴾؛ ليكون المعنى أن ﴿ تِلْكَ ﴾ آياتُ الكتب السماوية السابقة، وآياتُ القرآن المبين.
2- ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2].
ذكر المفسرون أن هذا يكون في يوم القيامة، وبعد أن يخرج عصاة المسلمين من النار، فيتمنى الكفار حينئذٍ أنْ لو كانوا مسلمين، وبحسب تفسيرهم فلنا أن نفهم أنهم استدلوا على ذلك بكلمة ﴿ يَوَدُّ ﴾
واختلف العلماء في ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ ﴾، فقالوا: إن (ربما) تدخل على الفعل الماضي فقط، وهي هنا داخلة على الفعل المضارع، ولأن هذا خبرٌ من الله تعالى فهو كالماضي المقطوع والمبتوت في حتمية حدوثه ووقوعه، وكأنه قال: ﴿ رُبَمَا ﴾ ودَّ، و(ربما) بمعنى التقليل، ولكن التقليل غير مقصود هنا، بل هو من باب التعبير عن المعنى بعكس ما يراد منه، أو من باب التعبير عن المتيقَّن منه بصيغة المظنون.
على أن سياق الآية لا يشير إلى يوم القيامة، بل إلى الكفار الذين عاصروا البعثة، وإلى أنهم هم كانوا يودون أن يكونوا مسلمين، ولعلهم أرادوا ذلك في قرارة نفوسهم، غير أن الكِبْر الذي كان يجثم على قلوبهم حال بينهم وبين اعتناق الإسلام كدَأْب الكافرين من الأمم السابقة الذين تيقنوا في أعماقهم بصدق الأنبياء، وأظهروا التكذيب علوًّا، كما ورد في قوله تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، وقد ورد في القرآن الكريم ما ينبئ عن كون كفار مكة كذلك فيما خاطب الله تعالى به نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
وبتتبع كلمة (ودَّ) في القرآن الكريم نرى أنها تدل على الرغبة في شيءٍ ما وقت حصول الكلام، من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، وقوله: ﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 7]، وقوله: ﴿ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ﴾ [الأحزاب: 20]، وقوله: ﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [القلم: 9]، وغيرها، وأما إذا كان استعمالها للرغبة في حصول شيء في غير زمن الكلام فسيكون في النص ما يرفع اللبس؛ من مثل قوله تعالى: ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴾ [المعارج: 11]، فالآيات السابقة على كلمة ﴿ يَوَدُّ ﴾ في سورة المعارج المباركة تدل على يوم القيامة، فضلاً عن أن ﴿ يَوْمِئِذٍ ﴾ تصرف معناها إلى اليوم الآخر في هذا الموضع.
إن ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾تخبر - والله أعلم - عن حال المشركين في مكة، وتبين بطريقة غير مباشرة تكبرهم وتعنتهم؛ ولهذا أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام في الآية التالية بطريقة تدل على الوعيد والتهديد بأن يتركهم، إذ قال: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].
3- ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الحجر: 6، 7].
وتحكي هذه الآية استهزاء المشركين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث طرق، هي:
♦ مخاطبته عليه الصلاة والسلام بصفة تجهيلٍ واستهزاء، وكأنهم لا يعرِفونه أو لا يعرفون اسمه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ﴾، وإذ قالوا:﴿ نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ﴾ وهم لم يؤمنوا بالذكر، فقد كانت إشارتهم إلى نزوله من قبيل الاستهزاء، وصاغوا فعل النزول للمجهول؛ لإنكار أن يكون ما كان يقرؤه عليه الصلاة والسلام عليهم نازلاً من الله تعالى.
♦ وبناءً على هذا الموقف؛ فقد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون، وأكَّدوا اتهامهم بمؤكِّدين؛ هما: إن واللام.
♦ اتهامهم إياه بالكذب ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، وبتحديه في صدقه بأن يأتي بالملائكة﴿ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ ﴾.
وقد تولى الباري عز وجل الرد على ذلك، ولم يُجْرِه على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ زيادةً في إظهار النصرة لنبيه، وتطييبًا لقلبه عليه الصلاة والسلام، وابتدأ الرد بمطلب المشركين في رؤية الملائكة عيانًا، فبيَّن لهم أن نزولهم - وهم الذين يجب الإيمان بهم غيبًا - لا يكون إلا لغاية مخصوصة، وأن رؤيتهم قبل الإيمان تعني نزول العذاب، ثم بعد ذلك عاد الباري عز وجل إلى الذكر، فأكد أنه سبحانه - وليس المجهول الذي ألمح إليه المشركون - هو مصدر هذا الذكر، فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقد أكد هذه العائدية بتوكيدين؛ هما: إن في ﴿ إِنَّا ﴾ و﴿ نَحْنُ ﴾.
ولأن هناك منكرين وأعداء لهذا القرآن؛ فإن من الممكن أن يسعى المغرضون إلى الإساءة إليه بتغيير لفظه؛ ولهذا فإن الله تعالى لم يردَّ على الكافرين في أنه هو الذي نزَّل الذكر وحسب، بل وزيادة على ذلك فقدأكد الحفاظ عليه بثلاثة مؤكدات؛ هي: إن في ﴿ إِنَّا ﴾، وتقديم﴿ لَهُ ﴾ الدال على الخصوصية والعناية، واللام في ﴿ لَحَافِظُونَ ﴾
ثم واسى الله تعالى رسوله بأن هذا العنت هو سنة الأوَّلين، وقد جُوبِهَ به الأنبياء السابقون من أممهم، وأن الناس الذين يطلبون رؤية الملائكة لا يؤمنون حتى وإن عرجوا هم في السماء، وأبصروا ما غاب عنهم فيها، لا أن تنزل عليهم الملائكة إلى الأرض، فإنهم إن حصل لهم ذلك سيظنون أنهم مسحورون: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر: 10 - 15].
4- ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ [الحجر: 16 - 20].
إن صدر السورة كان عن الغيب، وإذ كان موقف المشركين منه هو الإنكار والتكذيب، فقد لفت القرآن الكريم نظرهم إلى الغيب مرة أخرى، ولكن انطلاقًا من المحسوس المادي، فالممكن العقلي.
ومن هنا فقد بدأت هذه الآيات بذكر السماء وما فيها من نجوم وأبراج، وهو كله من المحسوس الذي يراه الناس رأي العين، والعلم الحاصل بالرؤية يقين لمن يرى، ثم مزج هذا اليقين المستحصَل بظاهرةٍ تجمعُ بين المحسوسِ المادي، وهي ظاهرة الشهب النازلة التي يراها الناس حقيقة، والغيبِ من خلال تقديم تفسير له يقع في باب الممكن، وهذا التفسير هو أن الشهب - وهي مادية ومرئية - ترجم الشياطين الذين يسترقون السمع، وهم غيب في شخوصهم، وحركة استراقهم السمع حركة غيبية.
وإثر هذه اللقطة الغيبية أعاد القرآن الكريم مستمعيه إلى العلم الذي كان من شأنهم أن يستخلصوه، وهو هيئة الأرض وما فيها، فهم يرونها ويرون أسباب الرزق فيها، ويعلمون أن على الأرض من الدواب ما لا تقع مسؤولية إطعامه عليهم؛ كالطيور والحشرات والحيوانات البرية منها خاصة، وهذا كله من المحسوس المتيقن، وأردفه بممكنات؛ كجعل خزائن كل شيء عند الله تعالى، وكون الرياح لواقح.
ولأن في هذا من أسباب الحياة: اللواقح والماء النازل من السماء، فإن المعاكس لها هو أسباب الموت، وكان الكافرون يوقنون بالموت؛ لكونه محسوسًا، ولا يعتقدون البعث؛ لكونه غيبًا، فجاءت الآيات لتنقلهم من الإنكار إلى اعتقاد الممكن، من خلال الإحياء المادي الذي يرونه وصولاً إلى الإيمان، فقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجر: 21 - 25].
إن المراد من هذه الآيات هو إشعار الناس بأن ما يرونه من الآيات الكونية يقين، وأن ما يبدو لهم ممكنًا هو واقع، وأن الغيب حقيقة، وفي هذا تحريرٌ لعقل الإنسان في ألا يقتصر في فهمه على المدرك الحسي فقط، فإن هناك ما يتجاوز الحس، ولا بد من الوصول إليه لمن شاء أن يكتسب العلم الحقيقي.
كما أن القرآن الكريم وقد نقل المستمع في الآيات السابقة بين اليقين والممكن، وقرَّبه إلى تقبُّل ما كان يظنه مستحيلاً - أي: الغيب - فقد سرد قصص الخلق، وسجود الملائكة، وموقف إبليس، وقصص الأنبياء السابقين؛ لثلاث غايات، هي:
♦ أنها كلها من الغيب الذي لم يعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره إلا من خلال القرآن الكريم، وكان إيرادها لأجل وضعها في قالب الممكن العقلي بالنسبة إلى الكافرين.
♦ أنها مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لما كان يلقاه من قومه، فالتعنت بدأ بإبليس ومن أول يوم كرم الله تعالى فيه الإنسان، مرورًا بما كان من شأن الأمم السابقة مع أنبيائهم، وكيف أن الله تعالى أخذهم أخذ عزيز مقتدر، ونصر رسله.
♦ أنها بشارة للمسلمين بالنصر ولو بعد حين، وتحذير للكافرين من أن يصيبهم مثلُ ما أصاب الأممَ السابقة إن لم يؤمنوا ويعتبروا.
5- ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50].
وتتعلق هاتان الآيتان اللتان ورد في الأولى منهما المغفرة والرحمة، وفي ثانيتهما العذاب، بما ورد قبلهما من ذكر الجنة والنار، وبما بعدهما من قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام.
ففي الآيات السابقة عليها قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 42 - 48]، وقد بدأت بالرحمة ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ ، وانتهت بالمغفرة والرحمة ونعيم الجنة؛ ولهذا تقدمت الآية المشتملة على المغفرة والرحمة، كما أن انتهاء الآية بذكر نعيم الجنة يجعل ابتداء الآية التالية بصفتي الله تعالى من حسن المجاورة والائتلاف بين أجزاء الكلام.
وأما آية العذاب، فقد تأخر ذكرها؛ لأن مظهر العذاب في الآيات السابقة عليها متأخر ﴿ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾.
ومع أن ﴿ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ يأتي بهذا الترتيب دائمًا، فإن لهذا النسق هنا ملمحًا إضافيًّا، فـ ﴿ الْغَفُورُ ﴾ سابق على ﴿ الرَّحِيم ﴾؛ لأن الصفتين معًا ستضفيان على أهل الجنة، ولكن ﴿ الرَّحِيم ﴾ الذي جاء لاحقًا سيكون - وفضلاً عما سبق - مما أضفي على إبراهيم ولوط عليهما السلام اللذين ذُكرا فيما بعد.
وأما تعلق الآيتين بما بعدهما، فقد جاء بترتيب الرحمة أولاً ثم العذاب، فضيف إبراهيم دخلوا عليه بالبشارة بالغلام، وعلى لوط بعده بالبشارة بالنجاة من القوم الفاسقين، والبشارة رحمة، وما حصل لقوم لوط بعد ذلك عذاب ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الحجر: 49 - 53]، و ﴿ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ﴾ [الحجر: 61 - 66].
6- ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 72 - 77]
لقد كانت عقول قوم لوط منفلتة ومتخبطة ومنغ
مسة في دوامة الغفلة، فما كان في مقدورهم أن يبصروا غير شهواتهم؛ ولهذا قال تعالى:﴿ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾، و﴿ يَعْمَهُونَ ﴾التي تعني التردد والضلال والتيه تدل - أيضًا - على عمى البصيرة والفطنة، فكان أن أُخذوا على حين غِرة، والأخذ المفاجئ عذابٌ إضافي في هذه الحالة.
إن فيما جرى لقوم لوط ﴿ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾؛ أي: لكل ذي لُبٍّ وتأملٍ وتفكرٍ، لكل من يبحث عن الحق، مؤمنًا كان أو غير مؤمن؛ ولهذا قال: ﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾، ولكن الذين تفيدهم ألبابهم وتهديهم إلى تبيان الحق والتمسك به هم المؤمنون الذين يعتبرون بما يلحظون؛ ولهذا نصَّ عليهم في قوله: ﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
ولهذا الاعتبار - أيضًا - تم إيراد خبر أصحاب الحجر وما وقع لهم، حتى إذا انتهى هذا الخبر اجتمع في هذه السورة الدعوة للإيمان بالغيب وإقامة الدليل عليه بالمحسوس والممكن، وكان بعض من المحسوس متعلقًا بأخبار الأمم الماضية، حتى إذا انتهى ذلك كله كان الانصراف إلى أن خلق السموات والأرض لم يكن عبثًا، بل تم لغاية معلومة، وأن الذي يبين للناس هذه الغايةَ وهذا الحقَّ هو رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الكريم الذي نزل عليه؛ ولهذا فإن الله تعالى أظهر ضمير الخطاب لرسوله عليه الصلاة والسلام في قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 85 - 87]، فشخصُه عليه الصلاة والسلام والقرآن الكريم هما الدالان على الحق في الخلق والغاية منه، ومِن ثَم فإن الآيات اللاحقة توجيه لكيفية تعامل النبيصلى الله عليه وآله وسلم مع ما حوله، وإخبارٌ له ولغيره بمهمته وحاله وما ينتظر السامعين، فقد كانت الأدلة المسوقة في ثنايا السورة كافية لمن أراد أن يقتنع بتلك المهمة التي أُنيطت به عليه الصلاة والسلام.
أ. د. عباس توفيق



 توقيع : نزف القلم

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ

رد مع اقتباس
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
وزارة الداخلية: تطبيق الحجر الصحي المنزلي عند قدوم أي من الفئات المستثناة من الحجر الصحي المؤسسي الَسِمًوٌ.! • •₪• أخبار وأحداث العالم •₪•• 7 11-May-2024 07:20 PM
تأملات في آيات من القرآن الكريم - سورة النحل نزف القلم أحاسيس القران وعلومه 6 13-Nov-2023 04:39 PM
تأملات في آيات من القرآن الكريم (سورة الإسراء) نزف القلم أحاسيس القران وعلومه 8 13-Nov-2023 04:38 PM
تأملات في آيات من القرآن الكريم (سورة الكهف) نزف القلم أحاسيس القران وعلومه 10 13-Nov-2023 04:38 PM
تأملات تربوية في سورة مريم د عثمان قدري مكانسي سلطان الزين أحاسيس القران وعلومه 12 24-Aug-2023 05:30 PM


الساعة الآن 02:27 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع ما يطرح في منتديات أحاسيس الليل لا يعبر عن رأي الموقع وإنما يعبر عن رأي الكاتب
وإننــے أبرأ نفســے أنا صاحبة الموقع أمامـ الله سبحانه وتعالــے من أــے تعارف بين الشاب والفتاة من خلال أحاسيس الليل
vEhdaa 1.1 by rKo ©2009