هل صح عن الرسول أنه أذِن لأرامِل شهداء أُحد أن يخرجن مِن بيوتهن وقت العدة ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل حديث نساء شهداء أُحُد حينما اشتكوا للرسول صل الله علية وسلم الوِحدة بعد وفاة أزواجهن في بيوتهن فأجاز لهن الخروج والمبيت في منازلهن ليلاً . هل هو صحيح أم ضعيف ؟
و جزاك الله خيرا
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وجزاك الله خيرا
أولاً : لا يَثبُت عن النبي صلى الله عليه وسلم مُسْنَدا .
وثانيا : ثَبَت مِن قول ابن مَسْعُود رضيَ اللّهُ عنه ، ومِن قول ابن عمر رضيَ اللّهُ عنهما ، بِنحوه .
أما الأول ، وهو الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد رواه الإمام الشافعي في كتاب " الأم " عن عَبْدُ الْمَجِيدِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : اُسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَآمَ نِسَاؤُهُمْ وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ فَجِئْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْلِ ، أَفَنَبِيتُ عِنْدَ أَحَدِنَا فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدَّدْنَا إلَى بُيُوتِنَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ ، فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إلَى بَيْتِهَا .
ومِن طريق الإمام الشافعي رواه : البيهقي .
قال ابن الملقِّن : وَهَذَا مُعْضَل ، وَعبد الْمجِيد هَذَا من رجال مُسلم مَقْرُونا بِهِشَام بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ ، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ ، وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد : ثِقَة دَاعِيَة إِلَى الإرجاء ، وَتَركه ابْن حبَان .
قلت: وَتَابعه عبد الرَّزَّاق فَرَوَاهُ عَن ابْن جريج، عَن عبد الله بن كثير، عَن مُجَاهِد . ذَكَرَه عبد الْحق فِي " أحْكَامه " ، ثمَّ قَالَ: هَذَا مُرْسل .
قلت: ويَقْوى هَذَا الْمُرْسل بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ : الْمُطلقَة والمتوفَّى عَنْهَا زَوجهَا تخرجان بِالنَّهَارِ وَلا تبيتان لَيْلَة تَامَّة عَن بيوتهما ، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ: أَنه قَالَ: الْمُطلقَة الْبَتَّةَ تزور بِالنَّهَارِ ، وَلا تغيب عَن بَيتهَا . اهـ .
والحديث الْمُرْسَل ضعيف عند جماهير الْمُحدِّثِين ، إلاّ أن يتقوّى مِن وجه آخر .
والحديث قَـوَّاه ابن القيم في " زاد المعاد " ، وتعقّبه الألباني بقوله : لقد أعَلّ ابن القيم في (زاد المعاد) الحديث بالإرسال، لكنه مال إلى تقويته ، فقال : (وهذا وإن كان مُرْسَلا، فالظاهر أن مجاهدا إما أن يكون سَمِعه من تابعي ثقة، أو من صحابي، والتابعون لم يكن الكذب معروفا فيهم. . .) إلخ.
قلت (الألباني) : وهذا مَردود باتفاق علماء الحديث في (المصطلح) : أن الحديث الْمُرْسَل مِن أقسام الحديث الضعيف .. . اهـ .
كما تعقّب ابنَ القيم وناقشه : د. جمال بن محمد السيد ، في كتاب : "ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها " .
وتَعَقُّب الأفاضل مُتَعقَّب : بأن ابن القيم يَرى اعتضاد الحديث الْمُرْسَل وتقويته بأوْجه أخرى .
قال ابن القيم : وَالْمُرْسَلُ إذَا اتّصَلَ بِهِ عَمل ، وَعَضَدَهُ قِيَاسٌ ، أَوْ قَوْلُ صَحَابِيّ ، أَوْ كَانَ مُرْسِلُهُ مَعْرُوفًا بِاخْتِيَارِ الشّيُوخِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ الرّوَايَةِ عَنْ الضّعَفَاءِ وَالْمَتْرُوكِينَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَقْتَضِي قُوّتَهُ ؛ عُمِلَ بِهِ . اهـ .
وهذا أشار إليه شيخه : شيخ الإسلام ابن تيمية ، فإنه قال : والْمُرْسَل إذا عَمِل به جمهور الصحابة يَحْتَجّ به الشافعي وغيرُه .
وقال : والمرسل إذا اعتضد به قول الصاحب احتج به مَن لا يحتج بالمرسل ، كالشافعي وغيره . اهـ .
مع ما يُضاف إلى ذلك مِن قوّة مَراسيل مُجاهد .
قال أبو نعيم : قال يحيى القطان : مُرْسَلات مجاهد أحب إليّ مِن مُرْسَلات عطاء بكثير .
وَقَال أَبُو عُبيد الآجري : قلتُ لأبي داود: مراسيل عطاء أحب إليك أو مراسيل مجاهد ؟ قال : مراسيل مجاهد . عطاء كان يَحمل عن كل ضرب !
والإمام مُجاهِد مِن كبار التابعين . اهـ .
وقال ابن حجر : قيّد الشافعي المرسل الذي يُقبل - إذا اعتضد - بأن يكون من رواية التابعي الكبير .اهـ .
وهذا ما ذَهب إليه ابن القيم في تقوية مُرْسَل مُجاهِد .
فإذا ثَبَتت هذه القرائن ، مع كَون مُرْسَل الإمام مُجاهِد بن جبر قد اعتضد بأقوال وفتاوى الصحابة رضيَ اللّهُ عنهم ؛ كان تقوية له ، كما ذهب إليه الشيخان : ابن تيمية وابن القيم .
وقد ثَبَت عن الصحابة رضيَ اللّهُ عنهم القول بِمعنى مُرسَل مُجاهد ؛ فيتقوّى الْمُرْسَل بالعَمَل .
وأما الثاني - فهو الحديث الموقوف على ابن مسعود رضيَ اللّهُ عنه - الذي رواه عبد الرَّزَّاق عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ نِسَاءٌ مِنْ هَمْدَانَ نُعِيَ إِلَيْهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، فَقُلْنَ: إِنَّا نَسْتَوْحِشُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: تَجْتَمِعْنَ بِالنَّهَارِ ، ثُمَّ تَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى بَيْتِهَا بِاللَّيْلِ .
ومِن طريق عبد الرَّزَّاق رواه : الطبراني . وقال الهيثمي : رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ . اهـ .
ورواه سعيد بن منصور من طريق عَلْقَمَةَ أَنَّ نِسْوَةً مِنْ هَمْدَانَ قُتِلَ أَزْوَاجُهُنَّ ، فَأَرْسَلْنَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَسْأَلْنَهُ عَنِ الْخُرُوجِ، فَقَالَ: اخْرُجْنَ بِالنَّهَارِ، يُؤْنِسُ بَعْضُكُنَّ بَعْضًا ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَلا تُبِيتُنَّ عَنْ بُيُوتِكُنَّ .
ورواه مِن طريق إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ نِسْوَةً مِنْ هَمْدَانَ قُتِلَ أَزْوَاجُهُنَّ فَاسْتَوْحَشْنَ، فَأَتَيْنَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَأَلْنَهُ، فَقَالَ : أَحَدُهُمَا: تَزَاوَرْنَ بِالنَّهَارِ . وَقَالَ الآخَرُ : تَحَدَّثْنَ بِالنَّهَارِ مَا بَدَا لَكُنَّ ، وَارْجِعْنَ بِاللَّيْلِ إِلَى بُيُوتِكُنَّ .
وروى الإمام الشَّافِعِيّ في " الأمّ " عن عبد الْمَجِيدِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لا يَصْلُحُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَبِيتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً إذَا كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ أَوْ طَلاقٍ إلاّ فِي بَيْتِهَا .
ومِن طريق الإمام الشَّافِعِيّ رواه البيهقي .
وروى عبد الرزاق من طريق نَافِعٍ قَالَ : كَانَتْ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَعْتَدُّ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فكَانَتْ تَأتِيهِمْ بِالنَّارِ فَتُحَدِّثُ عِنْدَهُمْ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهَا .
وروى ابن أبي شيبة مِن طريق نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لا تَكْتَحِلُ، وَلا تَخْتَضِبُ، وَلا تَلْبَسُ ثَوْبًا إِلاّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلا تَبِيت عَنْ بَيْتِهَا ، وَلَكِنْ تَزُورُ بِالنَّهَارِ .
وروى البيهقي مِن طريق سَالِم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللّهُ عنهما قَالَ: الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَخْرُجَانِ بِالنَّهَارِ ، وَلا تَبِيتَانِ لَيْلَةً تَامَّةً عن بُيُوتِهِمَا .
وروى مِن طريق نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : الْمُطَلَّقَةُ الْبَتَّةَ تَزُورُ بِالنَّهَارِ ، وَلا تَبِيتُ عن بَيْتِهَا .
وفي صحيح مسلم من حديث جَابِر بن عَبْدِ اللهِ رضيَ اللّهُ عنهما قال : طُلِّقَتْ خَالَتِي ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا ، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : بَلَى فَجُدِّي نَخْلَكِ ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي ، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا.
قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ : نَخْلُ الأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ ، وَالْجِدَادُ إنَّمَا تَكُونُ نَهَارًا .
وخُروج المرأة في العِدّة جائز للحاجة .
قال الإمام النووي في شرح حَدِيث جَابِر : هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِخُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ لِلْحَاجَةِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَآخَرِينَ : جَوَازُ خُرُوجِهَا فِي النَّهَارِ لِلْحَاجَةِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ هَؤُلاءِ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ في عدة الوفاة ، ووافقهم أبو أَبُو حَنِيفَةَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَقَالَ فِي الْبَائِنِ : لا تَخْرُجُ لَيْلا وَلا نَهَارًا . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الْمُحِدَّة : وتَلْزَم مَنْزِلَها ، فلا تَخْرُج بِالنَّهَار إلاَّ لِحَاجَة ، ولا بِالليل إلاَّ لِضَرُورَة .
والله تعالى أعلم .
المجيب الشيخ/ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|