|
فـعـآلـيـآت آلـمـنـتـدى | ||||
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
مبادئ علم التجويد
بسم الله الرحمن الرحيم مبادئ علم التجويد اعلم - رحمك الله - أنه ينبغي لكل مَن سعى لدراسة علمٍ من العلوم أن يبدأ أولاً بمقدماتٍ يتعرَّف فيها على مبادئه، حتى يكونَ على وعيٍ ممَّا يتعلمه؛ فكل عاقل إذا ما دعوتَه إلى دراسة أي علم، فإنه يسألُك عن تعريف هذا العلم، فإذا ما أخبرتَه، تساءل: هل يا ترى هذا العلم له أهمية يستحقُّ أن أُنفِق بسببِها فيه الوقتَ، أو أنه من الترف العقلي الذي لا يَزِيد في الإيمان شيئًا؟! ثم لو كانت له أهميةٌ، فما هي أوجه أهميته؟ ثم يسألك: هل لهذا العلم من خصائص تميِّزه؟ وما هي؟ وأيضًا: هل هناك منهج معيَّن للتعاملِ مع مسائل هذا العلم فيدرس به أو لا؟ وما هو؟ وهكذا.. لا بد أن يتعرَّف على المبادئ التي تشغلُ الذهن، قبل الدخول في العلم الذي تدعوه إليه. وقد نظم الشيخ الصبان - رحمه الله - بعض هذه المبادئ في قوله: انَّ مبادي كلِّ علمٍ عشرة الحدُّ والموضوعُ ثم الثَّمرة وفضلُه ونسبةٌ والواضع والاسمُ الاستمدادُ حكمُ الشارع مسائل والبعضُ بالبعضِ اكتَفَى ومَن درى الجميعَ حازَ الشَّرفَا وهاك بيان ذلك: 1- الحد: في اللغة: المنع، وفي الاصطلاح - وهو ما يتَّفِق عليه أهلُ كلِّ علم في استعمال ألفاظ مخصوصة يتداولونها فيما بينهم، يعبِّرون بها عن قضايا العلم -: التعريفُ بالشيء، أو الوصف المُحِيط بموصوفه، المميِّز له عن غيره، وشرط التعريف أن يكون مطَّردًا منعكسًا؛ أي: جامعًا مانعًا، لا يخرج شيءٌ من أفراده عنه، ولا يدخل فيه شيء من غير أفراده. والتجويد في اللغة: مصدر جوَّد من الجودة، ضد الرداءة، وهو التحسين والتجميل، ويقال للمحسِّن في تلاوة القرآن: مجوِّدًا، وقراءته مجوَّدة. وفي الاصطلاح: هو العلم الذي يبحث في الكلمات القرآنية، من حيث إعطاء الحروف حقها ومستحقها، أو هو إخراج كل حرف من مخرجه، وإعطاؤه حقه مستحقه من الصفات. وحق الحرف: صفاته اللازمة التي لا تنفك عنه؛ كالهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والاستعلاء والاستفال، والإطباق والانفتاح، والإصمات والإذلاق، والقلقلة والتفشِّي، والاستطالة والصفير، وغيرها. ومستحقه: صفاته العارضة التي تعرضُ له في بعض الأحوال، وتنفك عنه في البعض الآخر لسبب من الأسباب؛ كالتفخيم والترقيق، والمد والقصر، والغنَّة والإدغام، ونحو ذلك. فحق الحرف هو صفاته اللازمة له، والتي لا تنفك عنه، فإن انفكت عنه صار لحنًا، ومستحقه هو صفاته العَرَضية الناشئة عن الصفات الذاتية؛ كالتفخيم - مثلاً - ناشئ عن الاستعلاء، وكالترقيق ناشئ عن الاستفال، وهكذا. فالتجويد: هو علمٌ يبحث في الكلمات القرآنية من حيث إعطاء الحروف حقها من الصفات اللازمة التي لا تنفك عنها، ومستحقها من الصفات العارضة الناشئة عن الصفات اللازمة. والتجويد حلية التلاوة، وزينة القراءة، فمَن يقرأ القرآن مجوَّدا مصحَّحًا كما أنزل، فإن الآذان تتمتَّع بسماعِه، وتتأثَّر به الجوارح، وتخشع لتلاوته القلوب، فاللهم ارزقنا حبَّ كتابك، وتلاوته كما يُرضِيك عنا يا رب العالمين. 2- الموضوع: جمهور العلماء على أن موضوع التجويد كلمات القرآن الكريم فقط، من حيث إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وألا تخرج عمَّا قرر من أحكامه بإجماع الأمة، وقيل في الموضوع: السنَّة أيضًا، ولكنه رأي ضعيف. 3- الثمرة: صونُ اللسان عن اللحنِ في ألفاظ القرآن عند الأداء، ومن فائدته أيضًا: الفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وهذا معنى قول ابن الجزري - رحمه الله -: "مَن يُحسِن التجويد يظفر بالرشد"، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في البخاري -: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه))، وغاية علم التجويد تمكُّن القارئ من جودة القراءة وحسن الأداء، وعصمة لسانه من اللحن عند تلاوة القرآن الكريم؛ لكي ينالَ رضا ربه - تعالى - وتتحقَّق له السعادة في الدنيا والآخرة. 4- الفضل: علم التجويد من أشرفِ العلوم وأفضلها؛ لتعلُّقه بأشرف كتاب أنزله الله - تعالى - فليس أعظم من القرآن كلام الله المجيد، وفضل كلام الله - تعالى - على سائر الكلام كفضل الله - تعالى - على سائر خلقه، وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: ((خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلمه))، وقال: ((ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارَسُونه فيما بينهم، إلا حفَّتهم الملائكة، وغَشِيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)). وأهل القرآن هم أهل الله وخاصَّته؛ فاللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين؛ ولذلك فإن فضل علم التجويد فضل عظيم، بل إنه يعدُّ من أشرف العلوم وأفضلها؛ لكونه يتعلَّق بكلام الله - تعالى - ولأجل هذا الفضل جلس الإمام أبو عبدالرحمن السُّلَمي - مع جلالة قدرة وسَعَة علمه - أربعين عامًا يُقرِئ الناس القرآن في مسجد الكوفة. 5- النسبة: علم التجويد هو أحدُ العلوم الشرعية المتعلقة بالقرآن الكريم. 6- الواضع: التجويد وحي من عند الله - تعالى - لأنه صفةُ كلام الله - عز وجل - ومن الناحية العملية: الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه تلقَّاه مجوَّدًا من جبريل - عليه السلام - وتلقَّته الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين - من النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وهكذا إلى أن وصلنا بالتواتر مجوَّدًا كما أنزله الله - تعالى. وأما واضع قواعد هذا العلم الشريف، فقيل: أبو الأسود الدُّؤَلي، وقيل: أبو عُبَيد القاسم بن سلاَّم، وقيل: الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقيل: غيرهم، فيصلح أن أقول: إن واضع قواعد هذا العلم الشريف هم أئمة القرَّاء - رحمهم الله. 7- الاسم: اشتهر هذا العلم الشريف بين طلاَّبه بعلم التجويد. 8- الاستمداد: التجويد مستمدٌّ ومأخوذ من كيفية قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين والأئمة المقرئين، إلى أن وصلنا بالتواتر عن طريق مشايخنا. 9- الحكم: وهذه المسألة سأقفُ - بإذن الله - عندها وقفة أبيِّنها فيها قدر استطاعتي؛ وذلك لأن بعض طلاَّبي طلب إليَّ أن أبحث له هذه المسألة، لأجل مَن يعترضون عليه، فأسأل الله - تعالى - التجرُّد للحق، والبُعْد عن الهوى، والتوفيق إلى ما يحبه - تعالى - ويرضاه، والإخلاص في كل ذلك، إن ربي على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبي ونعم الوكيل. أقول: في مسألة حكم تعلُّم التجويد أحبُّ أن أفرِّق بين مستويين من التعلم، وأعني بهما التعلم النظري والتطبيق العملي، أو لأقول: التجويد العلمي والتجويد العملي. فأما الأول - وهو: التجويد العلمي أو النظري - فالمقصود به معرفة القواعد والأحكام العلمية التي أنا بصددِ شرح بعضها في الصفحات القادمة - إن شاء الله تعالى - وهذه القواعد وتلك الأصول والأحكام التي سأشرحُها هي على رواية الإمام حفصٍ عن عاصم من طريق الشاطبية. والناس أمام حُكم تعلم التجويد العلمي أو النظري فريقان؛ عامة الناس، وتعلمه بالنسبة لهم مندوب أو مستحب، وخاصةُ الناس، وهم الذين يتصدَّون للقراءة أو الإقراء، فتعلُّمه بالنسبة لهم واجب وجوبًا عينيًّا، حتى يكونوا قدوةً لغيرهم من العامة في تلاوة كتاب الله - تعالى - حق تلاوته، ولا بد أن يكون في كل مصر جماعةٌ يتعلَّمون التجويد ويعلِّمونه للناس، فإن لم يكن هناك جماعة يقومون بهذا الواجب أَثِموا جميعًا، ودليل ذلك قوله - تعالى -: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 122]، ودراسة علم التجويد من التفقُّه في الدين، فإذا قام بتعلمه وتعليمه جماعةٌ من خاصة الناس سقط عن عامتهم. أما القسم الثاني - وهو التجويد العملي؛ أي: التطبيقي - فالمقصود به: تلاوة القرآن تلاوة مجوَّدة كما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وأول مَن وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتبارِه مبلِّغًا عن الله - تعالى - حيث كان يُعَلِّم أصحابه القرآن، فيقرأ عليهم ويستمع لهم، كما سبق. وأقول في حكم هذا القسم: إن تلاوة القرآن تلاوة مجوَّدة أمرٌ واجب وجوبًا عينيًّا على كل مَن يريد أن يقرأ شيئًا من القرآن من مسلم أو مسلمة، وسيأتي الدليل على ذلك فيما بعد - إن شاء الله - فهذا القسم متَّفق عليه بين العلماء أنه فرضُ عينٍ على كلِّ مسلم، فلو أن مسلمًا لا يحفظُ إلا الفاتحة وقليلاً من الآيات سواها وتلقَّاها مشافهةً بتجويدها، فإنه لا يطالب بمعرفة الأحكام، بل يَكْفِيه الأداء الصحيح الذي توصَّل إليه عن طريق المشافهة، وهذا - في نظري والله أعلم - هو الذي أدَّى إلى اختلاف البعض في حكم تعلُّم التجويد النظري، والذي أرجِّحه وأقول به - وهو ما عليه كثير من أهل العلم -: أن تعلم التجويد النظري فرض كفاية إذا قام به البعض الذي يكفي، سقط عن الباقين، وإذا لم يَقُم به أحدٌ أَثِم جميع القادرين، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وإليك - يا صاحب القرآن - طرفًا من ذلك: 1- بعض أدلة الكتاب: هناك أدلة كثيرة منثورة في كتاب الله - تعالى - تدلُّ على وجوب تلقِّي القرآن بالتجويد وتعلُّم أحكام تلاوته، فمن ذلك: • قوله - تعالى -: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، والترتيل هو قراءة القرآن بتمهُّل وتؤدة، وخشوع وتدبُّر، مع مراعاة كل أحكام التجويد، وقد سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن هذه الآية، فقال: "هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف"، والتجويد - كما سبق أن عرَّفته -: إعطاء كل حرف حقه ومستحقه، وهذا لا يكون إلا بتعلم وتدريب. نعم قد يؤخذ بالتلقي، لكن هذا لا يغني تمامًا عن التجويد النظري، والناظر في الآية يجدُ أن الله - تعالى - لم يكتفِ بالأمر، بل أكَّده بالمصدر ﴿ تَرْتِيلًا ﴾ - والأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة إلى غير ذلك من الندب، أو الإباحة، أو غير ذلك - كما هو مقرَّر في علم الأصول - ولا قرينة هنا، فبقي على الأصل وهو الوجوب. بل أقول: هناك قرينة متصلة في نفس الآية، تؤكِّد أن الأمر هنا للوجوب، وأعني بهذه القرينة ما أشرت إليه قبل قليل من تأكيد الفعل بالمصدر؛ اهتمامًا به، وتعظيمًا لشأنه، وترغيبًا في ثوابه. • ومن أدلة القرآن كذلك: قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121]؛ إذًا فهناك مَن يَتْلُون القرآن حقَّ تلاوته بإعطاء كل حرف حقه ومستحقه من التجويد والعمل، وهناك مَن يتلُونَه دون ذلك؛ فلا يُتِمُّون حقوق الحروف ومستحقاتها من العلم والعمل، ومن حق التلاوة حسن الأداء وجودة القراءة، قال الشوكاني - رحمه الله - في فتح القدير: "أي يقرؤونه حق قراءته، لا يحرِّفونه، ولا يبدلونه"، ومما لا شك فيه أنه يُفهَم من الآية ذمُّ الذين لا يُحسِنون تلاوةَ القرآن الكريم، ولا يراعون أحكام التجويد عند تلاوته. • قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 17، 18]، ومعلومٌ أن القرآن أُوحِي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه وأحكام تلاوته، هكذا تلقَّاه - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - عليه السلام - وهكذا تلقَّته الصحابة - رضوان الله عليهم - كذلك، وهكذا إلى أن وَصَلَنا - بالتواتر - مجوَّدًا عن طريق مشايخنا الذين تعلَّمنا على أيديهم جميعًا. • قال - تعالى -: ﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]. • قال - تعالى -: ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ [النمل: 6]. • قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ [فصلت: 44]. • قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. • قال - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]. • قال - تعالى -: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]. • قال - تعالى -: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. فكل هذه الآيات من كتاب الله - تعالى - تدلُّ دلالة واضحة على أن الله - عز وجل - أنزل القرآن، وبيَّن أحكام تلاوته، فهي إذًا وحي من الله - تعالى - ولا يزال عمل القرَّاء من لدن نزولِه إلى يومنا هذا على مراعاة هذه الأحكام، تلقَّوها من أفواه المشايخ والعلماء جيلاً بعد جيل، في أكبر تواتر عرفته الدنيا من يوم خُلِقت إلى أن يرثها الله - تعالى. 2- بعض الأدلة من السنة المطهرة: وأدلة السنة كذلك كثيرة وملزمة؛ فمن بينها: 1- ما أخرجه الحافظ السيوطي في الدر المنثور، وسعيد بن منصور في سننه، والطبراني في الكبير، وصحَّحه ابن الجزري، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرئ رجلاً، فقرأ الرجل: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة: 60] مرسلة - أي: مقصورة، لم يمدَّ الفقراء مدَّها الواجب - فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأَنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الرجل: وكيف أقرأَكها يا أبا عبدالرحمن؟ قال: أقرأنيها هكذا: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة: 60]، فمدَّها، فابن مسعود - الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحب أن يقرأ القرآن كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد))، أنكر على الرجل أن يقرأ كلمة (الفقراء) من غير مدٍّ، ولم يرخِّص له في تركه، مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة ومعناها، ولكن لأن القراءة سُنَّة متبعة يأخذها الآخِر عن الأول، كما قال زيد بن ثابت - رضي الله عنه - واستفاض النقل عنه بذلك، أنكر ابن مسعود على الرجل أن يقرأ بغير قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أقرأ بها أصحابه، فدلَّ ذلك على وجوب تعلم أحكام التجويد، وتلاوة القرآن تلاوة صحيحة موافقة لهذه الأحكام؛ لدلالة مثل هذا النص بالجزء على الكل. والواقع أن الناس كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، فهم متعبدون أيضًا بتصحيح ألفاظه، وتجويد حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة، المتصل سندهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الصفة لا يمكن أن تؤخَذ من المصحف ولا من الكتب، وإنما تؤخذ بالتلقي عن العلماء المتخصصين في ذلك؛ لأن هناك بعض الأحكام لا يمكن إتقانُها إلا بالتلقي والمشافهة؛ مثل: الرَّوم، والإشمام، والتسهيل، وغير ذلك من الأحكام الدقيقة. 2- ما رواه النسائي عن يعلى بن مَمْلَك أنه سأل أم سلمة - رضي الله عنها - عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلاته فقالت: ما لكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعتُ قراءةً مفسَّرة حرفًا حرفًا، ورواه الترمذي بلفظ آخر، وقال فيه: حديث حسن صحيح؛ ففي هذا الحديث دليلٌ على أن تحسين القراءة وتجويدها هو سنة النبي - صلى الله عليه وسلم. 3- ما رواه أحمد وأبو داود وصحَّحه الألباني عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السَّفَرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاقٌّ له أجران)). 4- ما رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - بشَّراه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزِل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)). 5- ما أورده السيوطي في الإتقان عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، قال: الترتيل: تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. 3- دلالة الإجماع: وقد نقلها العلاَّمة الشيخ/ محمد مكي نصر في نهاية القول المفيد، فقال: "أجمعت الأمَّة المعصومة من الخطأ على وجوب التجويد، من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا، ولم يختلف فيه أحد منهم، وهذا من أقوى الحجج".. فلا يجوز لأي قارئ أن يقرأ القرآن بغير تجويد، وإلا كان من الذين شملهم الوعيد الشديد في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. فالتجويد واجبٌ على كل مَن أراد تلاوة شيء من القرآن، يثاب على فعله، ويعاقب على تركه؛ لأنه هكذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجوَّدًا مرتَّلاً، ووصل إلينا كذلك، وكما أن فهم معاني القرآن وإقامة حدوده والعمل به عبادة، فكذلك تصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقَّاة من أئمة القراءة عن الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة أيضًا كما سبق. وإلى ضرورة العمل بالتجويد أشار ابن الجزري - رحمه الله - في المقدمة، فقال: والأخذُ بالتجويدِ حتمٌ لازمُ مَن لم يجوِّد القرآنَ آثمُ لأنه بهِ الإلهُ أنزلا وهكذا منه إلينا وصَلا وهو أيضًا حليةُ التلاوة وزينة الأداء والقراءة وهو إعطاءُ الحروفِ حقها من صفةٍ لها ومستحقها وردُّ كلِّ واحدٍ لأصله واللفظ في نظيره كمثلِه مكمَّلاً من غير ما تكلُّفِ باللطف في النطق بلا تعسفِ وليس بينه وبين تركِه إلا رياضةُ امرئ بفكِّه فقد جعله واجبًا شرعيًّا يأثم الإنسان بتركه، وبه قال أكثر العلماء والفقهاء؛ ذلك لأن القرآن نزل مجوَّدًا، وقرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جبريل - عليه السلام - كذلك، وأقرأه الصحابةَ، فهو سنة نبوية. وقال الخاقاني في الرائية: وإن لنا أخذ القراءة سنَّة عن الأوَّلين المقرئين ذوي السِّتْر وقال مكي بن أبي طالب - رحمه الله - (ت: 437هـ) في الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة: "وليس قول المقرئ والقارئ: أنا أقرأ بطبعي، وأجد الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئًا مما ذكرته بحجة، بل ذلك نقص ظاهر فيهما؛ لأن مَن كانت حجته هذه يصيب ولا يدري، ويخطئ ولا يدري؛ إذ علمُه واعتماده على طبعه وعادة لسانه، يمضي معه أينما مضى به من اللفظ، ويذهب معه أينما ذهب، ولا يبنِي على أصل، ولا يقرأ على علم، ولا يقرأ عن فهم.. فلا يرضين امرؤ لنفسه في كتاب الله - جل ذكره - وتجويد ألفاظه إلا بأعلى الأمور وأسلمها من الخطأ والزلل". ومعرفة أحكام التجويد لها فضلٌ كبير في مساعدة قارئ القرآن الكريم على عدم الإخلال بمباني الكلمات القرآنية ومعانيها، وبلوغ نهاية الإتقان يكون برياضة اللسان على الأداء باللفظ الصحيح المتلقَّى عن فمِ المُحسن المُجِيد للقراءة. ومن أدلة وجوب تعلم علم التجويد، أدلة وجوب قراءة القرآن مجودًا، وعدم جواز تعمد اللحن فيه، وهي كثيرة؛ منها: 1- أن الأسانيد المتواترة التي نقلت بها قراءات القرآن عن القرَّاء العشرة، وفيها أنهم رفعوا هذا، أو نصبوه، أو جرُّوه، أو قرؤوه بالتاء أو بالياء إلى آخره، هي نفس الأسانيد التي فيها أنهم فخَّموا هذا أو رققوه، أو أدغموه أو مدوه إلى آخره، فما دام لا يجوز مخالفة الرواية في فتح أو ضم، فلا يجوز مخالفتها في صفة النطق بالحرف، وهي التجويد. 2- من أحكام التجويد ما تؤدِّي مخالفته إلى تحريف معاني القرآن؛ كمَن قرأ: (مستورًا) بتفخيم التاء، أو: (مسطورًا) بترقيق الطاء؛ فإنه يلبس إحدى الكلمتين بالأخرى، وكذلك مَن فخَّم ذال: (محذورًا) أو رقق ظاء: (محظورًا)، ولا يمكن لعاقل أن يقول بجواز هذا. 3- كلام الفقهاء من المذاهب الأربعة في بطلان صلاة مَنِ ائتَمَّ بمَن يلحنُ في الفاتحة، وتمثيلهم للحن بأشياء فيها إخلال بأحكام التجويد دليلٌ على أنهم يقولون بوجوب قراءة القرآن مجودًا. 4- أثر ابن مسعود - وقد صحَّحه الألباني واحتج به - وقد ذكرتُه في دلالة السنة، فارجع إليه. 5- قول بعضهم: ليس هناك حديث فيه ذكر الغنة أو الإدغام، فأقول هذه مصطلحات حادثة لأشياء معروفة عندهم، مثل مصطلحات سائر العلوم، فلا يلزم من حدوث المصطلح حدوث مدلوله. •••• كلام مَن يرون عدم الوجوب: • قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "ولا يجعل همَّته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن؛ إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالته، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وغير ذلك، فإن هذا حائلٌ للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ: (أأنذرتهم)، وضم الميم من عليهم، ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت". • وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان: "فصل: ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف، والتنطع فيها، ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم: قال أبو الفرج ابن الجوزي: قد لبَّس إبليس على بعض المصلِّين في مخارج الحروف، فتراه يقول: الحمد الحمد، فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة، وتارة يلبِّس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد المغضوب، قال: ولقد رأيتُ مَن يخرج بُصَاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده، والمراد تحقيق الحرف فحسب، وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة، وكل هذه الوساوس من إبليس. وقال أبو محمد ابن قتيبة: وقد كان الناس يقرؤون القرآن بلغاتهم، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم، ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلُّف، فهفَوا في كثير من الحروف، وزلُّوا فأخلوا، ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوامِّ بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين، فلم أرَ فيمَن تتبعتُ في وجوه قراءته أكثر تخليطًا ولا أشد اضطرابًا منه؛ لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصل أصلاً ويخالف إلى غيره بغير علة، ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة، هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المد والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلِّمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسَّره الله - تعالى - وتضييقه ما فسحه، ومن العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكرَه الصلاة بها، ففي أي موضع يستعملُ هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها، وكان ابن عُيَينة يرى لمَن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بإمامٍ يقرأ بقراءته أن يُعِيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين؛ منهم بشر بن الحارث، والإمام أحمد بن حنبل، وقد شغف بقراءته عوامُّ الناس وسُوقتهم، وليس ذلك إلا لما يَرَونه من مشقَّتها وصعوبتها وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرًا، وفي مائة آية شهرًا، وفي السبع الطوال حولاً، ورَأَوه عند قراءته مائل الشدقينِ، دارَّ الوريدينِ، راشح الجبين، توهَّموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خيار السلف، ولا التابعين، ولا القرَّاء العالِمين، بل كانت سهلة رسلة. وقال الخلال في الجامع عن أبي عبدالله إنه قال: لا أحبُّ قراءة فلان؛ يعني: هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة، وكَرِهها كراهية شديدة، وجعل يعجبُ من قراءته، وقال: لا يعجبني، فإن كان رجل يقبل منك فانْهَه. وحكي عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس أنه نهاه عنها. وقال الفضل بن زياد: إن رجلاً قال لأبي عبدالله: فما أترك من قراءته؟ قال: الإدغام والكسر، ليس يعرف في لغة من لغات العرب. وسأله عبدالله ابنه عنها، فقال: أكره الكسر الشديد والإضجاع. وقال في موضع آخر: إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع، فلا بأس به. وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ قال: أكرهه أشد كراهة، إنما هي قراءة مُحدَثة، وكَرِهها كرهًا شديدًا حتى غضب. وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها، فقال: أكرهها أشد الكراهة، قيل له: ما تكره منها؟ قال: هي قراءة محدَثة ما قرأ بها أحد. وروى جعفر بن محمد عنه أنه سُئِل عنها فكرهها، وقال: كرهها ابن إدريس، وأراه قال: وعبدالرحمن بن مهدي، وقال: ما أدري أَيْشٍ هذه القراءة، ثم قال: وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب، وقال عبدالرحمن بن مهدي: لو صليت خلف مَن يقرأ بها لأعدتُ الصلاة". فتوى الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: سئل الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما رأي فضيلتكم في تعلم التجويد والالتزام به؟ وهل صحيح ما يذكر عن فضيلتكم - حفظكم الله تعالى - من الوقوف بالتاء في نحو: (الصلاة - الزكاة)؟ فأجاب قائلاً: لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصِّلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من تحسين القراءة، وباب التحسين غير باب الإلزام، وقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنهما - أنه سئل: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدًّا، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم، والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمده، والنص عليه هنا يدل على أنه فوق الطبيعي، ولو قيل بأن العلم بأحكام التجويد المفصَّلة في كتب التجويد واجبٌ، للزم تأثيمُ أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبِّق أحكام التجويد في نطقك بالحديث، وكتب أهل العلم، وتعليمك، ومواعظك. وليعلم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله - عز وجل - في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب الله - تعالى - أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين، وقد ذكر شيخنا عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - في جواب له أن التجويدَ حسب القواعد المفصَّلة في كتب التجويد غير واجب، وقد اطَّلعت على كلامٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حول حكم التجويد قال فيه - ص50 مجلد 16 من مجموع ابن قاسم للفتاوى -: "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وغير ذلك، فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ: (أأنذرتهم)، وضم الميم من (عليهم)، ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت". وكلام هؤلاء العلماء الأفاضل الذين قالوا بعدم الوجوب لا ينقض ما ذكرته إطلاقًا، بل يُوَجَّهُ على مقاصد ثلاثة: 1- أن المذموم هو المبالغة في التجويد والتمطيط والتشدق به، وهذا مذموم أيضًا عند القائلين بالوجوب. 2- أن المذموم هو الانشغال بمراعاة أحكام التجويد على حساب التدبر والتفهم للمعاني. 3- أن المذموم هو الانشغال بجمع طرق الروايات على حساب العلوم الشرعية الأخرى. ومما يدل على أن مقصودهم يدورُ على هذا المعنى أن ابن الجوزي - رحمه الله - برغم ذمه الشديد وتشنيعه على المنشغلين بهذا العلم كما سبق بيانه، قد طلب هو نفسه القراءات العشر في آخر حياته، وهو ابن ثمانين سنة! فرحمه الله ورضي عنه، وكذا برغم كلام شيخ الإسلام السابق آنفًا، فقد أفتى ببطلان صلاة مَن لحن في الفاتحة. فتكون الخلاصة: أنه يجب تعلم التجويد لمعرفة القراءة الصحيحة التي نزل بها القرآن، ولكن بغير مبالغة ولا تشدق ولا تمطيط، وبغير أن يكون ذلك على حساب التدبر والتفهم لآيات الذكر الحكيم، وبغير أن يشغله جمع القراءات عن طلب العلوم الشرعية النافعة من الفقه والحديث والتفسير وغيرها. مذاهب الأئمة في حكم التجويد: 1- مذهب المالكية: جاء في مواهب الجليل - من كتب المالكية 2/101 -: فتحصَّل أن في صلاة المقتدي باللحَّان ستة أقوال: الأول: أنها باطلة، سواء كان لحنه في الفاتحة أو غيرها، وسواء غيَّر المعنى أو لا، وهذا القول الذي ذكره ابن يونس عن ابن القابسي، وأنه تأوَّله على المدونة، وقال: إنه أصح، قال المصنف في التوضيح: وفي قول ابن الحاجب: والشاذُّ الصحةُ إشارةٌ إلى أن المشهور البطلان، لكن لا أعلم مَن صرح بتشهيره، قال القابسي: وهو الصحيح، واحتج له بقوله في المدونة: ولا يصلي مَن يُحسن خلف مَن لا يُحسن القراءة، وهو أشد من تركها، قال: ولم يفرِّق في المدونة بين فاتحة وغيرها، ولا بين مَن يغير المعنى وغيره؛ اهـ. ونقل ابن عرفة عن ابن يونس أنه نقل هذا القول عن ابن القابسي، وزاد فيه: إن لم تستوِ حالهما.. قلت: ولم أقف في كلام ابن يونس على هذه الزيادة في هذا القول، وإنما ذكرها في قول ابن اللباد كما تقدَّم، وهذا القول هو الذي قدَّمه المصنف معتمدًا على تصحيح عبدالحق وابن يونس، وإن كان ابن رشد قد ضعَّفه وردَّه. القول الثاني: إن كان لحنه في أم القرآن لم يصحَّ الاقتداء به، وإن كان لحنه في غيرها صحَّت الصلاة خلفه، وهذا قول ابن اللباد، وابن أبي زيد، وابن شبلون، قال ابن ناجي في شرح المدونة: وشاهدت شيخنا الشبيبِي يُفتِي به بالقيروان، وكذلك أفتى به غير واحد، وقيَّده ابن يونس بألا تستوي حال الإمام والمأموم كما تقدم في كلامه، وهذا هو القول الثاني في كلام المصنف. القول الثالث: إن كان لحنه يغيِّر المعنى لم تصحَّ الصلاة خلفه، وإن لم يغير المعنى صحت إمامته، وهذا قول ابن القصار والقاضي عبدالوهاب. والقول الرابع: أن الصلاة خلفه مكروهة ابتداءً، فإن وقع ونزل لم تجبِ الإعادة، وهذا قول ابن حبيب، وقال ابن رشد: إنه أصح الأقوال. القول الخامس: أن إمامته ممنوعة ابتداءً مع وجود غيره، فإن أمَّ مع وجود غيره صحت صلاته وصلاتهم، وهذا اختيار اللخمي. القول السادس: أن الصلاة خلف اللحَّان جائزة ابتداءً، وهذا القول حكاه اللخمي، وأنكره المازري، وقال: لم أقف عليه، وقال ابن عرفة: قال المازري: نَقْلُ اللخمي الجواز مطلقًا لا أعرفه. 2- مذهب الشافعية: • قال الإمام الشافعي في الأم 1/109 - باب كيف قراءة المصلي: "قال الله - تبارك وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، قال الشافعي: وأقلُّ الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، وكلما زاد على أقل الإبانة في القراءة، كان أحب إليَّ ما لم يبلغ أن تكون الزيادة فيها تمطيطًا، وأحب ما وصفت لكل قارئ في صلاة وغيرها، وأنا له في المصلي أشد استحبابًا منه للقارئ في غير صلاة، فإذا أيقن المصلي أن لم يبقَ من القراءة شيء إلا نطق به أجزأته قراءته، ولا يُجزِئه أن يقرأ في صدره القرآن ولم ينطق به لسانه، ولو كانت بالرجل تَمْتَمة لا تبين معها القراءة أجزأته قراءته إذا بلغ منها ما لا يطيق أكثر منه، وأكره أن يكون إمامًا، وإن أمَّ أجزأ إذا أيقن أنه قرأ ما تجزئه به صلاته، وكذلك الفأفاءُ أكره أن يؤم، فإن أمَّ أجزأه، وأحب ألا يكون الإمام أرتَّ ولا ألثغ، وإن صلى لنفسه أجزأه، وأكره أن يكون الإمام لحانًا؛ لأن اللحَّان قد يُحِيل معاني القرآن، فإن لم يلحن لحنًا يحيل معنى القرآن أجزأته صلاته، وإن لحن في أمِّ القرآن لحنًا يحيل معنى شيء منها لم أرَ صلاته مجزئة عنه ولا عمَّن خلفه، وإن لحن في غيرها كرهته، ولم أرَ عليه إعادة؛ لأنه لو ترك قراءة غير أم القرآن وأتى بأم القرآن رجوتُ أن تجزئه صلاته، وإذا أجزأته أجزأت مَن خلفه - إن شاء الله تعالى - وإن كان لحنُه في أم القرآن وغيرها لا يحيل المعنى أجزأت صلاته، وأكره أن يكون إمامًا بحال". • قال الإمام النووي في المجموع 3/347: "تجب قراءة الفاتحة في الصلاة بجميع حروفها وتشديداتها، وهن أربع عشرة تشديدة، في البسملة منهن ثلاث، فلو أسقط حرفًا منها، أو خفَّف مشددًا، أو أبدل حرفًا بحرف مع صحة لسانه لم تصحَّ قراءته، ولو أبدل الضاد بالظاء ففي صحة قراءته وصلاته وجهان للشيخ أبي محمد الجُوَيني. قال إمام الحرمين، والغزالي في البسيط والرافعي، وغيرهم: أصحهما لا تصح، وبه قطع القاضي أبو الطيب، قال الشيخ أبو حامد: كما لو أبدل غيره، والثاني: تصح لعسر إدراك مخرجِهما على العوامِّ وشبههم، الثالثة: إذا لحن في الفاتحة لحنًا يخلُّ المعنى بأن ضم تاء "أنعمتَ" أو كسرها، أو كسر كاف "إيَّاك نعبد"، أو قال: إياء بهمزتين لم تصح قراءته وصلاته إن تعمَّد، وتجب إعادة القراءة إن لم يتعمَّد، وإن لم يخل المعنى؛ كفتح دال "نعبد"، ونون "نستعين"، وصاد "صراط"، ونحو ذلك، لم تبطل صلاته ولا قراءته، ولكنه مكروهٌ ويحرم تعمُّده، ولو تعمده لم تبطل قراءته ولا صلاته، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور. قال أبو محمد الجُوَيني في التبصرة: شرط السين من البسملة وسائر الفاتحة أن تكون صافية غير مشوبة بغيرها، لطيفة المخرج من بين الثنايا - يعني وأطراف اللسان - فإن كان به لثغة تمنعه من إصفاء السين فجعلها مَشُوبة بالثاء، فإن كانت لثغة فاحشة لم يَجُزْ للفصيح الاقتداء به، وإن كانت لثغة يسيرة ليس فيها إبدال السين جازت إمامته، ويجب إظهار التشديد في الحرف المشدد، فإن بالغ في التشديد لم تبطل صلاته، لكن الأحسن اقتصاره على الحد المعروف للقراءة، وهو أن يشدد التشديد الحاصل في الروح، وليس من شرط الفاتحة فصل كل كلمة عن الأخرى كما يفعله المتقشفون المتجاوزون للحد، بل البصريون يعدُّون هذا من العجز والعِي، ولو أراد أن يفصل في قراءته بين البسملة و﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قطع همزة الحمد وخفَّفها، والأَوْلى أن يصل البسملة بالحمد لله؛ لأنها آية منها، والأولى ألا يقف على أنعمتَ عليهم؛ لأن هذا ليس بوقف، ولا منتهى آية أيضًا عند الشافعي - رحمه الله. • وقال الشربيني في الإقناع 1/167: وإن كان اللحن في غير الفاتحة كجرِّ لام رسوله صحَّت صلاته والقدوة به، حيث كان عاجزًا عن التعلم، أو جاهلاً بالتحريم، أو ناسيًا، أما القادر العالم العامد فلا تصح صلاته ولا القدوة به للعالم بحاله". 3- مذهب الحنابلة: ذكر صاحب كشاف القناع - من كتب الحنابلة 1/337 -: "وفيها أي: الفاتحة - إحدى عشرة تشديدة، وذلك في: لله، ورب، والرحمن، والرحيم، والدين، وإياك، وإياك، والصراط، والذين، وفي الضالين ثنتان، وأما البسملة، ففيها ثلاث تشديدات، فإن ترك ترتيبها؛ أي الفاتحة، بأن قدَّم بعض الآيات على بعض، لم يعتدَّ بها؛ لأن ترتيبها شرط صحة قراءتها، فإنَّ مَن نكسها لا يسمَّى قارئًا لها عرفًا، وقال في الشرح عن القاضي: وإن قدم آية منها في غير موضعها عمدًا أبطلها، وإن كان غلطًا رجع فأتمَّها، (أو ترك حرفًا منها)؛ أي: الفاتحة، لم يعتدَّ بها؛ لأنه لم يقرأها، وإنما قرأ بعضها، (أو ترك تشديدة) منها (لم يعتد بها)؛ لأن التشديدة بمنزلة حرف، فإن الحرف المشدَّد قائم مقام حرفين، فإذا أخلَّ بها فقد أخل بحرف.. قال في شرح الفروع: وهذا إذا فات محلها، وبَعُد عنه، بحيث يخل بالموالاة، أما لو كان قريبًا منه، فأعاد الكلمة أجزأه ذلك؛ لأنه يكون بمثابة من نطق بها على غير الصواب، فيأتي بها على وجه الصواب، قال: وهذا كله يقتضي عدم بطلان صلاته، ومقتضى ذلك: أن يكون ترك التشديدة سهوًا أو خطأ، أما لو تركها عمدًا، فقاعدة المذهب تقتضي بطلان صلاته إن انتقل عن محلها، كغيرها من الأركان، فأما ما دام في محلها، وهو حرفها لم تبطل صلاته. تابع
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
شرحا وافيا لاحكام التجويد بالصور | سلطان الزين | أحاسيس القران وعلومه | 15 | 16-Nov-2024 04:43 AM |