لن أبرر هذا الإنقطاع بشيء يخصّك هذه المرة .. و " هذه المرّة " .. هذه السيئة التي تبين الاستثناء, هذه التي تقول أنك في كل المرّات .. إلا هذه المرّة ! . كانت أدراجي مترعة بالرسائل الفارغة , سبعرسائلمن مجهول لم يُكتب فيها حرفاً واحداً, ولكنها ذات معنى . كان كلامها اللا مكتوب واضحاً للحد الذي لا أستطيع فيه إلا أن أتساءل :
لماذا لم تظهره الأوراق ؟!
أليست فكرة اختفاؤه غريبة ؟
كان عليّ أن أستثير عقلي, أن أرسله ليبحث عنك في هذا الكلام المفقود, أن يبحث عن المرسل, أن أخبره بكل ما حصل وخصوصاً " هذه المرة " المستثناة من كل المرّات !. ولكنك لم تكوني سيئة , وسيئة هذه في مفهومي الذي تعرفينه جيداً .. هي التي لم تؤذِ أحداً , هي التي لم ترضَ أن تكون طيبة وتفتح لها أبواب القلوب على مصراعيها , لتعيث فيها السقم. . ألستِ طيبة ؟ ولماذا لاتكوني طيبة وأنتِ التي قلتِ :
أمك ولدتك حياً , وهذا يكفيك. أما أنا فسأحملك من جديد وأضعك ميتاً .
- وسألتني: ألست سيئة ؟
لست سيئة.
-ومن هو الإنسان السيء ؟
فقلت لك: هو الذي لم يرضَ أن تحمله الصدور. هو الذي إن حُمِل ينتقل من صدرٍ لآخر دون أن يترك أثراً فيه . ومن هو الإنسان الطيّب ؟
- هو الذي يحب أن يخلف رحيله ثقباً في قلوب محبيه . بعكس السيء الذي لايحب الرحيل.
أنا كنت مؤمناً بوداع شخص سيء , وأنه لن يأتي أبداً , كما يفعل أولئك الطيبين الذين لم نبتغِ هجرانهم. ولكنني عندما أحاول التكهن بالوقت, بزمن تلويحته, وردّ تلويحتي المنتشية, أعيد النظر في إيماني .
- وكيف ؟
أعود إلى نقطة البداية, أنظر, أتأمل, أفشل, أحاول , أقنط.. أصرخ بحنجرة يائس, أزفر كيتيم, أسأل كمن لا ينتظر إجابة , وأعرف نتيجة إعادة النظر في هذا الإيمان.
- وماهي؟
كن سيئاً ؛ لتعرف متى تُهجر.. كن سيئاً ؛ لتعرف من تهجر .. كن سيئاً ؛ لتعرف من يهجرك . ولا تكن طيباً.
- وهل تريد أن تكون سيئاً؟
يكفي أنك لن تؤلم أحداً بسوئك, مثل ألمك لو كنت طيباً . الطيبون لا يفهمون معنى أن تنتظر, أن تكون قلقاً بشأنهم, وإن فهموا فالظروف ليست متواطئة دائماً . هناك قدر .. هناك في ماوراء هذه الحياة أشياء لانعرفها , لكنك عندما تتأملين تدركين أنّ للطيبين نسبة كبيرة في كسل مجاديفك , في امتعاضها, في امتناعها عن انتشالك من براثن الغرق ... .
من هو الطيب الآن ؟ ألستِ طيبة ؟ ألا ترين هذا الثقب الكبير الذي خلفه غياب الإنسان الطيب؟ ألا ترين هذا الإنسان الطيب الذي ضرب كل أجور السكن الباهظة عرض الحائط واستقر في قلبٍ سيء, رث ؟ ألا ترين هذا القلق الذي لا يملك غيره الإنسان السيء ؟
هذا الجرح الطيّب الذي لم يبرح جسد صاحبه عندما استشرى العفن, لم يرضَ أن يترك صاحبه وحيداً , فاختار أن يتجدد كل يوم حتّى لا يؤلمه عفن السكن. . ألا ترين هذا الإنسان السيء الذي لم يرضَ حتّى الآن أن يحمله صدر غيرك؟ هذا الإنسان الذي فشل كثيراً في أن يكون طيباً . هذا الذي جرّب كل شيء في حياته إلا الوقوف أمام المرآة؛ لأنه كان يخشى ألا يرى شيئاً.. ألا ترين هذا الباخع لنفسه؟
مذ عام ونصف والأيام لم تعد سيئة , إنها طيّبة بشكل لا يليق بحياة . لم يتغير شيئاً, رتابة عمرها عام ونصف, روتين كان في بدايته مقلقاً , مؤلماً بثقله . ولكنها العادة, تلك التي لا تشعرنا بشيء عندما تتنطّع وتوغل في امتصاص الأشياء المتكررة . عام ونصف تغيرت فيه أسماء, ماتت أسماء, ظهرت أسماء جديدة .. ذهبوا فيه أصدقاء وتركوا روائحهم, تلك المؤرخة بتاريخ ذهابهم, تلك التي تقول : استعملوني فقط عندما تتشنج أنوفكم . عام ونصف عرفت فيه أن بعض الأيام كأم رؤوم, تحملنا وعندما تضعنا لا تتوانى عن مدّ حلمتها لأفواهنا الثاغية, وبعضها كزوجة أب لاتقبل أن نقيم بجانبها حتّى في أحلك الظروف تأزماً .عام ونصف سمح بذهاب أشياء كثيرة , لم يعترض إلا على بقاء على شيئين : سبعرسائلفارغةإلا من معنى, وسؤال عالق في حنجرة بغيضة :
ماذا تسمين البحث عن امرأة في ورق فارغ؟!
|