كثيرًا ما أفكر في أحوال النفس البشرية، والذي أستنتجُهُ في كل مرة أن مَن كانت نفسه البشرية تستمِدُّ قيمتَها من البشر اضطرَبَ باضطرابهم، وتقلُّب أهوائهم، وصارت نفسه مُعَلَّقة بين أيديهم يُقَلِّبونها كيفَما يشاؤون، يومًا تصبح في أشدِّ حالاتِها سعادةً، وغدًا تغدو في أعمَق حالاتِها بؤسًا؛ لأنها تستند إلى أكثر الأشياء تَغَيُّرًا، وتتغيَّرُ مع آرائهم التي ربما تكون الآن بحالٍ.. وبعد ساعاتٍ في حالٍ آخر!
وما أرى نهاية ذلك إلا الاضطراب والتشتُّت بعد التيهِ بين جُمُوع الأحكام والآراء، واهتزاز الصورة الذاتية حتَّى ينسَلِخَ المرءُ من نفسه، ولا يدري مَن يكون.
وهذا ينطبق أيضًا على مَن يستمِدُّ قيمتَه من نفسه، فإن كان في وقت ضعفٍ فقلَّما سينصُرُ نفسه وإن استحقَّت منه ذلك، وإن كان في قوةٍ ازداد بنفسه زهوًا وإن لم يستحق، وفي الحالتين لن يدرك ما حقيقته، ولرُبما من تقلُّبِهِ تعَجَّبَ مِن حاله لا يدري أيُّهُمَا هو.
ومَن طمع في قياس قيمتَه الحقيقيَّة، فليعرضها على خالقها ليعلم مَن هو، ويدرك - حقيقةً - ما هو عليه، فإذا رأى نفسه حيث أمَرَه - عزَّ وجلَّ - وافتقدها حيث نهاه، وأدرك أنه يسعى ليكون ضمن مَن يحبهم ويرضاهم من عباده، لا يؤذي ولا يفسد، ومضى في دنياه حارصًا على نقاء قلبه وسلامته، أدرك أنه ذو قيمةً حقيقيَّة، وهذه هي المقاييس الثابتة، التي لا تطرأ عليها تغيُّرات جديدة يومًا بعد يومٍ، ولهذا كانت أكثرها صِدقًا وإنصافًا للنفس البشرية، والأرحَمُ بها من كل شيء.
فمَن رأى نفسه كيف يكون في عينِ خالق نفسه والأعلم بها وبصلاحها من عدمه، فقد بلَغَ أعلى حالات استقراره النفسي، ووصل إلى حقيقة نفسه، واستند إلى رُكنٍ ثابتٍ يعود إليه كلما اقترب أو ابتعد ممَّا يجب أن يكون عليه، وعاش سالِمًا بين رحمةِ ربه التي تشمله وتقبله وإن أخطأ، لا يضُرُّه ما دون ذلك.