المؤمن الفطن كالتاجر الحريص، إلا أن التاجر يجمع من حُطام الدنيا، والمؤمن يحصد الأجور العظيمة، وبذلك فإن المؤمن يتحين مواسم الطاعات، ومحطات التزود لليوم الآخر، والليل والنهار يختلفان طولًا وقصرًا، بردًا وحرارة، وها نحن في أيام الشتاء ولياليه؛ حيث النهار القصير، والشمس الباردة، والليل الطويل الممتد، وهذه فرصة سانحة للصيام، فلا ظمأ يُذكَر، ولا تعب شديد، بل إن الصائم عند أذان المغرب لا يكاد يحس بظمأ ولا نصب.
الكثير من الناس محرومٌ، فلا يصوم إلا في رمضان، وبعضهم يصوم الست من شوال وعرفة وعاشوراء، وهذا حسن، لكن الصوم لا ينقطع في أي شهر من أشهر العام، ويكون يسيرًا في أيام كهذه، والناس في غفلة عن الصوم وفضائله؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184]، و((عليك بالصوم؛ فإنه لا مثلَ له))، فالخير كل الخير في الصوم، و((الصيام جُنَّة))؛ أي: وقاية وحفظ وحماية، والدنيا زائلة، ولا تدري متى يفاجئك مَلَكُ الموت، فتزود بالصالحات ومن أعظمها الصيام، فعند الإفطار تأتي الفرحة الأولى، ويذهب التعب، وينسى الجوع، والفرحة الكبرى للصائم إذا ((لقِيَ ربه فرح بصومه))، وفي أثناء صومك تُفتح لك أبواب السماء، وتكون مجاب الدعاء؛ فـ((ثلاث دعوات لا تُرَدُّ: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر)).
من عظيم أمر الصوم أنه معين على بقية الطاعات، بل إنه علاج لأهم عضو في الجسد؛ ألا وهو القلب؛ ففي الحديث: ((ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر، صوم ثلاثة أيام من كل شهر))؛ الوحر: الغيظ، والحقد، وبلابل الصدر، ووساوسه، وغشه، وقيل: العداوة، وقيل: أشد الغضب، كما أن الصوم حصن حصين من فتن الشهوات، وما أكثرها في هذا الزمان، حتى أصبحت تتطارد الناس إلى غرف نومهم وحماماتهم، وقد أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم الشباب غير القادرين على الزواج، وقد تعصف بهم فتن الشهوات إلى الصوم؛ وذلك في وصيته النافعة بقوله: ((يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)).
من الأمور المعينة على الصوم التواصي به، فإذا صام أحد أفراد الأسرة، فهذا مشجِّعٌ وحافز قوي للآخرين، وكذلك في المدرسة والعمل، كما أن رؤية حلقات الإفطار في المساجد تحرك الرغبة عند الناس للطاعة، فـ"كم من الناس من لم يرد خيرًا وﻻ شرًّا حتى رأى غيره - ﻻ سيما نظيره - يفعله ففعله؛ فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبُّه بعضهم ببعض"؛ كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فليتواصَ طلاب العلم وأصحاب الصفوف الأول في المساجد بالصوم فـ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)).
أسعد الناس بصوم التطوع في أيام الشتاء النساء في البيوت؛ لأن كثيرًا من الرجال لا يستطيع الصوم كون عمله شاقًّا، أما المرأة فميسور لها ذلك، ولهذا يكثر صوم التطوع من النساء، خصوصًا من تقدمت في السن وقد كبر أولادها، كذلك تستطيع المرأة أن تؤخر بعض الأعمال إلى ليل الشتاء الطويل، وتستغل بالصوم نهاره القصير، ويمكن أن تحث النساء بعضهن البعض عن طريق المجموعات في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذا من التعاون على البر والتقوى.
أخيرًا فإن بيتًا فيه صائمون ترفرف حوله السعادة والأنس والمحبة، ولا أجمل من الجلوس على مائدة الإفطار؛ حيث الفرح والسرور والطمأنينة، والقلوب المتآلفة، ورمضان خير شاهد؛ وصدق المصطفى حيث قال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له)).
وصلى الله على البشير النذير، والسراج المنير واله الطاهرين