أنت حائر دائما ..هل تقترب من الآخرين أم تبتعد عنهم ؟! هل تثق بهم أم تصدق ظنونك فيهم ..؟ هل تبوح لهم بأسرارك أم تكتمها عنهم .. هل تعيش في قلب الدائرة معهم .. أم تنعزل على حافتها كما يعيش الغجر في أطراف المدن و القرى .. منعزلين عنها و منفردين بأنفسهم ؟
و أنا معك في كل هذه التساؤلات أبحث عن إجابات مريحة لها و حائر معها مثلك .
فمنذ قديم الزمان و الإنسان حائر في علاقته بالآخرين يحتاج إليهم و يشكو منهم .. يشقى إذا ابتعد عنهم و يبكي إذا اقترب منهم .. لا يستطيع أن يعيش وحيدا كحيوان اللؤلؤ في قلب محارته .. و لا يستطيع أن يلتصق بالآخرين في كل لحظة من عمره و إن فعل كانت شكواه منهم كشكواه من الوحدة سواء بسواء .. فلا هو ارتاح في القرب منهم و لا هو وجد راحته في البعد عنهم .. لأن حالنا مع الآخرين كحال المتنبي مع الملوك الذين اقترب منهم طلبا للسلطان فقال عنهم :
صحبت ملوك الأرض مغتبطا بهم
و فارقتهم ملآن من ضيق صدرا !
و هذا هو حالنا دائما نحن البشر مع الجميع ! و ذات يوم سألني شاب هذه الأسئلة الحائرة .. فتذكرت فجأة قصة قديمة رواها أحد الأدباء عن مجموعة من " القنافد " اشتد بها البرد ذات ليلة من ليالي الشتاء فاقتربت من بعضها و تلاصقت طلبا للدفء و الأمان ، فآذتها أشواكها فأسرعت تبتعد عن بعضها ففقدت الدفء و الأمان فعادت للاقتراب من جديد بشكل يحقق لها الدفء و يحميها في نفس الوقت من أشواك الآخرين ، و يحمي الآخرين من أشواكها .. فاقتربت و لم تقترب .. و ابتعدت و لم تبتعد .. و هكذا حلت مشكلتها ، و هكذا أيضا ينبغي أن يفعل الإنسان !
فالاقتراب لشديد من الجميع قد يغرس أشوكهم فينا و يغرس أشواكنا فيهم .. و البعد عنهم أيضا يفقدنا الأمان و الدفء و يجعل الحياة قاسية و مريرة لهذا فنحن في حاجة دائما إلى أن نتلامس مع الآخرين .. و لكن بغير اقتراب شديد يفتح أبواب المتاعب ، و يحجب الرؤية و يشوِّش السمع . لأن القرب الشديد يضيّق مدى الرؤية في حين أن الاقتراب عن بعد أو الابتعاد عن قرب يجعل الرؤية أوضح و السمع أصغى .. فأنت إذا اقتربت جدا من الميكروفون و تحدثت فيه خرج صوتك مشوشا غير مفهوم .. و إذا أبعدته قليلا عن فمك خرج صوتك واضحا .. أما إذا ابعدته كثيرا .. جاء صوتك كالفحيح لا يميزه أحد ، فالإنسان في حاجة إلى رفقاء يبثهم شجونه و يهتم بأمرهم و يهتمون بأمره ، لكنه يحتاج أيضا أن تكون له ذاته الخاصة التي لا يقترب منها إلا الأصفياء وحدهم .. و الإنسان أيضا يحتاج أن يحسن الظن بالآخرين لكي تستقيم الحياة لكنه يحتاج أيضا أن يكون حريصا بعض الشئ في علاقته بهم ، فلا يمنح ثقته الكاملة إلا لمن عرفه جيدا و امتحن إخلاصه و صداقته و قيمه الأخلاقية ، لأن الإسراف في الشك خطأ يكشف عن سوء طوية الإنسان وفقا لقول الشاعر : " إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه " ، كما أن الإسراف أيضا في الثقة بالجميع و عن غير خبرة بهم يورد الإنسان موارد التهلكة و دليل على الغفلة وفقا للحكمة العربية القديمة " الشك من حسن الفطن " .. و من هنا جاءت فكرة " الوسط الذهبي " عند فلاسفة اليونان أي فكرة الاعتدال في كل شئ .. في القرب من الناس و في الابتعاد عنهم ، في الثقة فيهم و في سوء الظن بهم و أيضا في كل أمور الحياة ، و هي نفس الفكرة التي تعبر عنها الحكمة المعروفة " خير الأمور الوسط " ، فالعقلاء من البشر هم الذين يحيون الحياة باعتدال في كل شئ .. و شذاذها هم من يقفون دائما على حافة الدائرة من كل أمر و من كل شئ .. و من كل قضية .
و أنت قد تشكو مثلا ممن تأتمنه على أسرارك .. فيبوح لسانه بها و لو بعد حين لكنك تعفي نفسك من اللوم لأنك كنت أول من أفشى سرك هذا حين بحت به لمن ائتمنته عليه ! و السر إذا عرفه اثنان لم يعد سرا كما يقولون ، و لا لوم على الآخرين إذا ضاقت صدورهم به فقد ضاق صدرك أنت أولا به لهذا فليس من حقك أن تغضب ممن أفشى سرك و أن تعتبرها خيانة عظمى .. و أن تفقد صديقا لهذا السبب وحده .. و أن تبتعد عن الآخرين بسبب ذلك .. فالأمر قد لا يكون خيانة و إنما مجرد عجز بشري عن حفظ الأسرار .. لأنه ليس كل الناس قادرين على الكتمان ، و الدليل هو أنت شخصيا الذي يسألك الشاعر و معه الحق :
تبوح بسرك ضيقا به ..و تبغي لسرك من يكتم ؟
و أنت ترى أن من حقك أن تنتقد الآخرين و أن تذكر معايبهم لكنك تتألم كثيرا إذا مارسوا معك نفس الهواية فآذوك بألسنتهم و ذكروا معايبك ، .. و أنت قد لا تستطيع دائما أن تكف ألسنة الآخرين عنك لكنك تستطيع على الأقل أن تتجنب الكثير منها إذا التزمت في حياتك الشخصية بالتعفف عن ذكر عيوب الآخرين و عوراتهم و إذا صنت عينك عن عيوب الآخرين كما يطالبك الإمام الشافعي و قلت معه دائما : " يا عين للناس أعين " ! . أي لهم أعين ترى يا عين عيوبي فلا تري عيوبهم لكيلا يروا عيوبي .. و هذه و تلك بعض مشاكلنا مع الآخرين و بعض مشاكل الآخرين معنا .. و مع كل ذلك فالحياة جديرة دائما بأن نحياها .. و نحن الذين نستطيع أن نجعل منها رحلة هادئة مأمونة من الخوف و الألم و العذاب .
و كل رحلة تحتاج إلى رفاق سفر نستعين بهم ( بعد الله سبحانه ) على وحشة الطريق و نلتمس لديهم الدفء و الأنس و الصحبة .. و علينا أن نفعل ذلك دائما و لكن بشرط أن نتعلم الحكمة من القنافد في اقترابها من الآخرين ..